باب ما جاء في نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
النعل : الحذاء ؛ وهو ما وقيت به القدم من الأرض ، وقد عقد المصنف رحمه الله هذه الترجمة ليبين صفة نعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه صلى الله عليه وسلم في لبسه .
ويقال في هذا الباب ما سبق ذكره في باب اللباس بأن للإنسان أن يلبس ما شاء من العمائم والقمص والأردية والنعال ما لم ينه عنه شرعا ؛ فإن النعال التي تلبس في كل زمان تختلف صفاتها وهيئاتها بحسب عادات الناس ومألوفهم ، فالأصل في كل ذلك الإباحة حتى يرد الدليل على تحريم شئ منه .
75- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : كَيْفَ كَانَ نَعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَهُمَا قِبَالاَنِ. " أخرجه البخاري 5857 ، والمصنف في جامعه 1772 . "
- قوله : " لهما قبالان " أي لكل واحد من النعلين قبلان ، والقبلان تثنية قبال ـ بكسر القاف ـ وهو الزمام والسير الذي يعقد فيه الشسع الذي يكون بين أصبعي الرجل ، وهو يساعد على راحة الإنسان في المشي ، وثبات الحذاء في القدم . ص 116 76- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَالاَنِ مَثْنِيٌّ شِرَاكَهُمَا. " أخرجه ابن ماجه في السنن 3614 "
- قوله : " مثني شراكهما " الشراك : هو أحد سيور النعل التي تكون على وجهها ، والمعنى أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها زمام قد جعل فيه سيران اثنان .
77- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ : أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالاَنِ.
" قَالَ : فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا كَانَتَا نَعْلَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " أخرجه البخاري 5858 بغير لفظ : " جرداوين "
- فقوله : " جرداوين " أي لا شعر عليهما ، يقال : أرض جرداء أي لا نبات فيها .
- وقوله : " فحدثني ثابت بعد عن أنس : أنهما كانتا نعلي النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان أنس رضي الله عنه ـ خادم النبي صلى الله عليه وسلم ـ محتفظا بهاتين النعلين عنده في بيته ، وينظر الآتي في آخر هذه الترجمة حول التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم المنفصلة من بدنه كالشعر ،أو الملامسة لبدنه كالحذاء .
78- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ ص 117
عُمَرَ : رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ ، قَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. " أخرجه البخاري 5851 ، ومسلم 1187 ، وفيه قصة "
- قوله : " رأيتك تلبس النعال السبتية " السبتية : نسبة للسبت ـ بكسر السين وهو جلد البقر المدبوغ ، وتسمى سبتية ؛ لأن شعرها قد سبت عنها ، أي : أزيل بعلاج من الدباغ ، فالنعال السبتية هي المصنوعة من جلد البقر المدبوغ الذي سقط منه شعره .
- فقوله : " إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيه شعرا " هذا معنى السبتية ، والنعال إذا صنعت من جلود بهيمة الأنعام ، فأحيانا يبقى عليها الشعر كاملا ، وأحيانا يبقى عليها مخففا ، وأحيانا يزال بالكلية ، فتوصف عندئذ النعل بأنها جرداء ، وأنها سبتية .
- فقوله : " ويتوضأ فيها " يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم يتوضأ وهي عليه فلا ينزعها ، أو أنه يتوضأ ، ثم يلبس التعلين ؛ والرجلان رطبتان من أثر الوضوء .
- قوله : " فأنا أحب أن ألبسها " أي : أحب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يلبس النعل السبتية ؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها .
79- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَالاَنِ.
- حديث أبي هريرة هذا بمعنى حديث أنس ، وحديث ابن عباس ص 118
رضي الله عنهم ، وقد تقدما .
80- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ يَقُولُ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ. " أخرجه النسائي في السنن الكبرى 9719 ، وفي إسناده من لم يسم ، وهو الراوي عن عمرو ، لكن جاء ما يقويه عند الإمام أحمد رحمه الله في المسند 20587 وغيره .
- قوله : " مخصوفتين " أي : مخروزتين ، والخصف هو ضم الشئ إلى الشئ ، وخصف النعل معناه خرزها بأن يضم بعض أجزائها إلى بعض ، وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله بيده كما جاء ذلك في المسند من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قيل لها : " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كما يصنع أحدكم : يخصف نعله ، ويرقع ثوبه " مسند الإمام أحمد 24749 " وفي الحديث صلاته صلى الله عليه وسلم بالنعلين ، وقد صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في سننه القولية الفعلية ، فلا إشكال في جوازه عندما تكون أرض المساجد ترابا وحصباء ، أو تكون الصلاة في الصحراء ، " لكن بعد أن فرشت المساجد بالفرش الفاخرة ـ في الغالب ـ ينبغي لمن دخل المسجد أن يخلع نعليه رعاية لنظافة الفرش ، ومنعا لتأذي المصلين بما قد يصيب الفرش مما في أسفل الأحذية من قاذورات ، وإن كانت طاهرة " فتاوي اللجنة الدائمة 6/ 213 "
81- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ : حَدَّثَنَا ص 119
مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ ، لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا. " أخرجه البخاري 5855 ، ومسلم 2097 ، والترمذي في جامعه 1774 . "
82- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ نَحْوَهُ.
- أنهى المصنف ما يتعلق بصفة نعله صلى الله عليه وسلم وشرع في ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في لبس النعل ، فأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لا يمشين أحدكم في نعل واحدة " ؛ بحيث تكون إحدى الرجلين منعولة ، والأخرى حافية ، قوله " لينعلهما جميعا ، أو ليحفهما جميعا " يعني : إما أن يمشي بالرجلين منعولتين ، أو يمشي بهما حافيتين ، أما أن تكون إحدى الرجلين حافية ، والأخرى منعولة ، فهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوضح ما ذكر في الحكمة في ذلك أمران :
الأمر الأول : قيل لئلا يكون في ذلك تشبه بالشيطان ، ولهذا روي في بعض طرق الحديث زيادة : " إن الشيطان يمشي بالنعل الواحدة " شرح مشكل الآثار للطحاوي 3/ 386 ، عن الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، وقد تفرد بها جعفر ، وللحديث طرق عديدة ليس فيه هذه الزيادة . "
الأمر الثاني : لئلا يكون ظلما للبدن ، فالشريعة أمرت الإنسان بالعدل حتى مع بدنه ، فإذا مشى بنعل واحدة ، والرجل الأخرى حافية ؛ فإن كانت الأرض حارة أو باردة ظلم الرجل الحافية ، والشريعة جاءت بالنهي عن الظلم .
وقد نقل العلامة ابن القيم في كتابة " تحفة المودود بأحكام المولود 1/ 100 " عن شيخه ص 120
ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ كلاما عظيما في تقرير هذا ؛ حيث قال : " نهى رسول الله عن القزع ، والقزع أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه ، قال شيخنا : وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل ؛ فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه ، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه ؛ لأنه ظلم للرأس ؛ حيث ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا ، ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل ؛ فإنه ظلم لبعض بدنه ، ونظيره نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة ؛ بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما " .
ويذكر أن الشيخ ابن باز رحمه الله سأله سائل فقال : لو كانت النعل الثانية بعيدة عني خطوة أو خطوتين ؛ أفأمشي إليها بنعل واحدة ؟ فقال الشيخ : إن استطعت أن لا تخالف السنة ولو بخطوة واحدة فافعل .
83- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ ، يَعْنِي الرَّجُلَ ، بِشِمَالِهِ ، أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ. " أخرجه مسلم 2099 "
- قوله : " يعني الرجل " ليس معنى ذلك أن الحكم مختص بالرجال ، لكن يذكر الرجال غالبا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم الذين يوجه لهم الخطاب غالبا ، وإلا فالحكم يشمل الرجال والنساء على حد سواء .
النهي عن الأكل بالشمال يشمل النهي عن الشرب به أيضا ؛ فلا يجوز الشرب بالشمال ، كما لا يجوز الأكل به . ص 121
قوله : " أو يمشي في نعل واحدة " أي : نهى صلى الله عليه وسلم عن أن يمشي الرجل في نعل واحدة ؛ بحيث تكون إحدى الرجلين منعولة ، والأخرى حافية ، وهو بمعنى الحديث الذي قبله .
84- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، عَنْ مَالِكٍ ، ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مَالِكٌ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ ، فَلْتَكُنِ الْيَمِينُ أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ. " أخرجه البخاري 5856 ، ومسلم 2097 ، وأخرجه المصنف في جامعه 1779 "
- فيه أن اليمين لها التكرمة على الشمال في الانتعال ، ولهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم حب التيمن في الأمور التي فيها التكرمة والزينة ؛ من ترجله وتنعله وشأنه كله ، وتقدم اليسرى في ضد ذلك ، كنزع النعل عند دخول الخلاء ، وعند الخروج من المسجد .
85- حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَشْعَثُ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَطُهُورِهِ.
- حديث عائشة رضي الله عنها هو بمعنى ما سبق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد ص 122
كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في لبسه لنعله ، وفي تسريحه لشعره ، وتمشيطه له ، وفي طهوره ؛ فيبدأ باليد اليمنى ، والقدم اليمنى .
86- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامٌ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ لِنَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَالاَنِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا وَاحِدًا عُثْمَانُ. " إسناده لا يثبت ؛ لأن فيه عبد الرحمن بن قيس أبا معاوية وهو متروك ، كذبه أبو زرعة وغيره . "
- قوله : " كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلان " ، سبق بيان معنى القبالين ، قوله : " وأبي بكر وعمر " أي : كان لنعليهما قبالان كذلك ، " وأول من عقد عقدا واحدا عثمان " رضي الله عنهم ، أي اتخذ قبلا واحدا ، وفيه أن لبسه صلى الله عليه وسلم كان على وجه العادة ، لا على قصد العبادة , وإلا لم يتركه عثمان رضي الله عنه .
* فائدة في مسألة التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم المفصلة من بدنه كالشعر ، والملازمة لبدنه كالجبة :
جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يحتفظون بهذه الآثار ، ويعتنون بها ، ويتبركون بها ، وقد سبق أن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها كان عندها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا أصاب إنسانا عين ، أو اشتكى بعث بإناء إليها فخضخضته فيه ، ثم شربه ، وتوضأ منه .
قال ابن حجر : " والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة ؛ فتجعل ص123
فيه تلك الشعرات ، وتغسلها فيه ، وتعيده ؛ فيشربه صاحب الإناء ، أو يغتسل به استشفاء بها ، فتحصل له بركتها " فتح الباري 10/ 353 "
وقد خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعل جسمه مباركا ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بعرقه ، وببصاقه ، وبشعره ، وبفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله ثابت في الأحاديث الصحيحة .
فالتبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ثابت ، ومأثور عن الصحابة رضي الله عنهم ، وعن التابعين لهم بإحسان ، وحكمه باق على المشروعية ؛ فلا تقتصر على الصحابة ، وعلى التابعين .
لكن السؤال : هل يوجد شئ من آثار رسولنا صلى الله عليه وسلم في زماننا هذا ، بحيث يكون عندنا يقين تام وجزم أكيد أنه شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو نعله ، أو نحو ذلك ؟
أما الآثار التي هي أحاديثه صلى الله عليه وسلم وسنته ، وآدابه ، وأخلاقه ، ومعاملاته ؛ فهذه محفوظة في دواوين السنة بالأسانيد الصحيحة . لكن فيما يتعلق بآثاره ؛ مثل الشعر ، والنعل ، والعصا ، ونحو ذلك ، فهل يوجد شئ من ذلك في هذا الزمان ؟ الإجابة على هذا السؤال تتضمن أمورا :
الأمر الأول : إن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الآثار قليل جدا ، ويدل عليه ما رواه البخاري " 2739 " : عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه أنه قال : " ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ، ولا دينارا ، ولا عبدا ، ولا أمة ، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء ، وسلاحه ، ص 124
وأرضا جعلها صدقة " .
الأمر الثاني : إن كثيرا من هذه الآثار تعرضت للفقدان مع مر الأيام بأسباب منها الفتن التي وقعت بين المسلمين ؛ فقد جاء في الصحيحين " البخاري 5873 ، ومسلم 2091 " ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق ، وكان في يده ، ثم كان بعد في يد أبي بكر ، ثم كان بعد في يد عمر ، ثم كان بعد في يد عثمان ، حتى وقع بعد في بئر أريس نقشه : " محمد رسول الله " وسيأتي في الباب الذي يليه .
ومن أسباب فقدان تلك الآثار : وصية الصحابة رضي الله عنهم بأن يدفن معه ما يوجد عنده من آثاره صلى الله عليه وسلم ؛ فقد جاء عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه أوصى بذلك .
ومن أسباب فقان تلك الآثار : الحروب ، فمن يطالع كتب التاريخ كـ " البداية والنهاية " يجد الإشارة إلى أشياء فقدت ، مثل البردة ، والقطيفة التي فقدت في أواخر الدولة العباسية ، حينما أحرقهما التتار عند غزوهم لبغداد .
الأمر الثالث : ـ وهو أهم ما يكون في هذا الباب ـ عدم الدليل اليقيني ؛ فيحتاج الإنسان إلى أدلة يقينية تثبت هذا الأثر ليتأكد أنه من آثاره صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من أهل العلم : إن هذه الآثار في مثل هذا الزمان لا يمكن الجزم بها ؛ لأنه ليس هناك أدلة يقينية تثبتها ، فلا يجوز للإنسان أن يتبرك بشئ إلا إذا كان عنده يقين تام أنه من آثاره صلى الله عليه وسلم ، أما الدعاوي والتخرصات والظنون ، فلا يعتمد عليها في هذا الباب ولا تقبل ؛ لأن المقام مقام خطير .
إضافة إلى أن بعض الناس قد تجاوزوا في هذا الباب فدخلوا في نوع من المغالاة ص125
والمجازفة التي تؤثر على العقيدة تأثيرا بالغا ، ولا أطيل بذكر الشواهد والأمثلة على ذلك ، لكني أورد بيتا واحدا لأحدهم يذكره في نعل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول :
ولما رأيت الدهر قد حارب الورى جعلت لنفسي نعل سيده حصنا
أي : سيد الورى هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فجمع في هذا البيت بين ثلاث مخالفات :
الأولى : قوله : " لما رأيت الدهر حارب الورى " ؛ ففي هذا سب الدهر ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث النهي عن سب الدهر .
الثانية : قوله : " جعلت لنفسي نعل سيده حصنا " ، أي جعل النعل حصنا له ، وهذا فيه تعلق بغير الله تعالى ، والتجاء إلى غير الله ، وهذا من الشرك بالله .
الثالثة : ما في قوله : " نعل سيده " أي : سيد هذا الدهر الذي حارب الورى من مغالاة لا تخفى .
ومما يؤسف له أيضا انتشار صورة في بعض المواقع يزعم أنها صورة لنعل النبي صلى الله عليه وسلم فيتبرك بها بعض الناس ، مع أنها لم تثبت بسند صحيح ، ولو سلم ثبوتها فليست الصورة هي النعل التي يتبرك بها .
ولهذا ينبغي على المسلم أن لا يجازف ، ولا يخاطر بدينه وبعقيدته ، وأن لا تحمله بعض العواطف إلى الدخول في منزلقات لا تحمد عاقبتها . فحب النبي صلى الله عليه وسلم تاج على رؤوس أهل الإيمان ، ووسام في قلوبهم لا يساوم فيه ، ولا ينازع عليه ، ومكانته صلى الله عليه وسلم عظيمة ، ومحبته مقدمة على النفس والنفيس ، والوالد ، والآل ، والناس أجمعين لكنه صلى الله عليه وسلم حذر الأمة أشد التحذير من المغالاة ومن التعدي ؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عمل عملا ليس عليه ص 126
أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم 1718 " . وفي لفظ : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه ؛ فهو رد " أخرجه البخاري 2697 ، ومسلم 1718 " . وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى أحاديث كثيرة .
فينبغي للمسلم أن يلزم نفسه بالسنة ، وأن يضبط نفسه بضوابطها ، وأن يحذر من الغلو والتجاوز ، والإحداث في دين الله ـ تبارك وتعالى ...
* تنبيه : التبرك بالآثار خاص بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يتبرك بآثار غيره كائنا من كان ، ولهذا لم ينقل إطلاقا عن أحد من الصحابة أنه تبرك بآثار أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو علي ، وليس في الأمة خير منهم رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم . ص127