باب ما جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمر
السمر : هو السهر بعد هدأة الليل ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن السمر بعد هدأة الليل ،واستثنى من ذلك سمر الرجل مع زوجه .
والسهر ـ ولا سيما في زماننا هذا ـ يعد من المصائب العظيمة ، والبلايا الكبيرة ، وله جنايات كثيرة على كثير من الناس ، ومن أعظم الجنايات التي ترتبت عليه في زماننا هذا إضاعة صلاة الفجر ، وهذه والله مصيبة جسيمة ، فإذا نام الإنسان عن هذه الفريضة العظيمة فقد جنى على يومه جناية عظيمة .
قال ابن القيم رحمه الله " وأول النهار والشمس بمنزلة شبابه ، وآخره بمنزلة شيخوخته ، وهذا أمر معلوم بالتجربة " مفتاح دار السعادة 2/ 216 "
، ومن شب على شئ شاب عليه ، فما يكون من الإنسان في أول اليوم ينسحب على بقيته ؛ إن نشاطا فنشاط ، وإن كسلا فكسل .
252- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ الْبَزَّارُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ ، عَنْ مُجَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نِسَاءَهُ حَدِيثًا ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ : كَأَنَّ ص 274
الْحَدِيثَ حَدِيثُ خُرَافَةَ فَقَالَ : أَتَدْرُونَ مَا خُرَافَةُ ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلاً مِنْ عُذْرَةَ ، أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَكَثَ فِيهِمْ دَهْرًا ، ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الإِنْسِ فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الأَعَاجِيبِ ، فَقَالَ النَّاسُ : حَدِيثُ خُرَافَةَ. " أخرجه أحمد 25244 ، في إسناده مجالد بن سعيد ، وهو ليس بالقوى ، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه " البداية والنهاية 6/ 54 عندما أورد الحديث : " وهو من غرائب الأحاديث ، وفيه نكارة ، ومجالد بن سعيد يتكلمون فيه " ، فالحديث من حيث الإسناد ضعيف ؛ لأن فيه مجالدا ، ومن حيث المتن فيه نكارة ؛ لأنه لا يمكن لإحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول لحديثه صلى الله عليه وسلم : " كأن الحديث حديث خرافة " .
- قوله : " إن خرافة كان رجلا من عذرة ، أسرته الجن ... " أي : إن خرافة اسم رجل ، وهو عذري ، أخذته الجن أسيرا في الجاهلية ، ثم أرجعوه إلى الناس ، فكان يذكر للناس أخبارا غريبة ما رأوها ولا سمعوا بها فيتعجبون منها ، فقالوا : " حديث خرافة " ، وأصبحت مثلا سائرا في كل حديث لا يصدق ،إلا أن الحديث لم يثبت وفي متنه نكارة .
حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ.
253- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : جَلَسَتْ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا : فَقَالَتِ الْأُولَى : زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ ، لاَ سَهْلٌ فَيُرْتَقَى ، وَلاَ سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ . قَالَتِ الثَّانِيَةُ : زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ ص 275
عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ . قَالَتِ الثَّالِثَةُ : زَوْجِي الْعَشَنَّقُ ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ . قَالَتِ الرَّابِعَةُ : زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ ، لاَ حَرٌّ وَلاَ قُرٌّ ، وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَةَ . قَالَتِ الْخَامِسَةُ : زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ . قَالَتِ السَّادِسَةُ : زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ ، وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ . قَالَتِ السَّابِعَةُ : زَوْجِي عَيَايَاءُ أَوْ غَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ . قَالَتِ الثَّامِنَةُ : زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ . قَالَتِ التَّاسِعَةُ : زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ . قَالَتِ الْعَاشِرَةُ : زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ ، قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ . قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ ، وَبَجَّحَنِي فَبَجَحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ، عُكُومُهَا رَدَاحٌ ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ ، وَتُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ ص276
بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا ، مِلْءُ كِسَائِهَا ، وَغَيْظُ جَارَتِهَا ، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا ، وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا ، وَلاَ تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا ، قَالَتْ : خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ ، يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا ، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلاً سَرِيًّا ، رَكِبَ شَرِيًّا ، وَأَخَذَ خَطِّيًّا ، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا ، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا ، وَقَالَ : كُلِي أُمَّ زَرْعٍ ، وَمِيرِي أَهْلَكِ ، فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ ، مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ. " أخرجه البخاري 5189 ، ومسلم 2448 "
- هذا الحديث مشهور عند أهل العلم يحديث أم زرع ، ومن أهل العلم من أفرده بمصنف خاص لكثرة فوائده كالقاضي عياض رحمه الله في كتابه " بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد " ، ومنهم من شرحه ضمنا مستوفيا فيه الكلام كالحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه : " فتح الباري " 9/ 257
وهذا الخبر الطويل الذي ذكرته عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء النسوة في نبأ كل واحدة منهن مع زوجها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليها مؤانسة لها ، وحسن معاشرة ، فيه أن إحدى عشرة امرأة اجتمعن في مجلس واحد ، وتعاهدن الا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا ، سواء ما كان من ذلك مدحا أو قدحا ، فمنهم من ذكرت ص 277
زوجه بمدح ، ومنهم من ذكرته بقدح ، ومنهن من ذكرته بهما معا .
- " فقالت الأولى : زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقي ، ولا سمين فينتقل " ، شبهت زوجها بهذا التشبيه مبينة أنه كان معها قليل الإفادة والإحسان ، فشبهته بلحم الجمل ؛ لأنه أغلظ من لحم الضأن ونحوه ، وهو مع ذلك غث ، أي هزيل لا يستساغ من هزاله ، وهذا اللحم أيضا على رأس جبل وعر ، ليس بسهل فيرتقي ـ أي الجبل ـ ولا سمين فينتقل ـ أي اللحم ـ ، ولو كان سمينا نفيسا طيبا فمن الممكن أن تتكبد مشقة الصعود إليه ، تشير بذلك إلى قلة إحسانه إليها ، ووعورة أخلاقه ، وتعامله معها ، وفظاظته وغلظته .
- " قالت الثانية : زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف أن لا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره " ، هذه الثانية ، تصف زوجها بأنه كثير المعايب ، ولو أنها فتحت الباب للحديث عن معايبه لكان الحديث طويلا ، ولهذا قالت : " إني أخاف أن لا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره " أي : لو أني فتحت هذا الباب ، وحدثتكن بعجره لطال الحديث ، فاكتفت بهذا الإجمال .
- قالت الثالثة : زوجي العشيق " : الطويل طولا مذموما ، فهو على غير عقل ، وعلى غير رزانة ، " إن أنطق أطلق " إن أنطق بشئ من أخباره وتصرفاته أطلق ، " وإن أسكت أعلق " أي : وإن اسكت أسكت على مضض وعلى قهر ، وأكون عنده مثل المعلقة التي لم يطلقها زوجها فتنكح زوجا غيره ، ولا هو الذي أبقاها عنده بحقوقها الزوجية .
- قالت الرابعة : زوجي كليل تهامة " ، وتهامة : هي المنطقة المنخفضة بين البحر ص 278
الأحمر وجبال الحجاز واليمن ، تشبه زوجها بليل تهامة ، فما صفة ليل تهامة ؟ قالت " لا حر ولا قر " أي : ليس بالحار ، ولا بالبارد ، وإنما هو معتدل ، فكذلك زوجها ، فهو معتدل في تصرفاته ومعاملاته معها ، " ولا مخافة " أي : ليس عندي من جهته مخاوف ؛ فلا أتخوف من شئ منه ، " ولا سآمة " السآمة هي الملل ، أي : لا يحصل لي ملل عنده بسبب اعتداله .
- قالت الخامسة : زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد " ، وصفت زوجها بأنه يدخل بيته دخول الفهد ؛ الحيوان المعروف ، ويخرج خروج الأسد .
من الشرح من اعتبر هذا الوصف مدحا وثناء ؛ فكأنها تمثل زوجها عند دخوله للبيت بالفهد من حيث التكرم والإحسان وحسن المعاشرة ، وعند خروجه بالأسد من حيث الشجاعة ، ولا يسأل عما عهد لكثرة مسامحته ، وعلى هذا أكثر الشراح .
ومنهم من اعتبر بعضه مدحا وبعضه ذما ؛ فهو يشبه الأسد في الشجاعة إذا خرج ، فهو مدح ، ويشبه الفهد إذا دخل ، فهو ذم ، قالوا : الفهد إذا أوى إلى كهفه فليس عنده إلا النوم ، وكونه لا يتفقد بيته ليعرف نواقصه وحاجاته يعتبر ذما آخر .
- قالت السادسة : زوجي إن أكل لف " ، هذه تذم زوجها بأنه إذا دخل بيته فليس له هم إلا بطنه ، فلذا " إن أكل لف " أي : إذا جلس للأكل يلف الذي أمامه من الطعام ويستقصيه ، " وإن شرب اشتف " أي : إذا شرب لا يبقي شيئا من الشراب بل يستقصيه ، " وإن اضطجع التف " أي : إن اضطجع لينام التف بلحاف وحده في زاوية من البيت ، ولا يسأل عن أهله ، " ولا يولج الكف ليعلم البث " أي : أنه لا يتفقد ص 279
زوجه ، ولا يؤانسها ، ولا يداعبها ليعلم ما في نفسها من أحزان وهموم .
- قالت السابعة : زوجي عياياء " ، من العي ، وهو الانهماك في الشر ، " أو غياياء " ، من الغي ، وهو الذي لا يهتدي ، " طباقاء " أي : أحمق حمقا مطبقا ، " كل داء له داء " أي : لا يخطر ببالكن من داء ، ومذمة ، وعيب في الرجال إلا وهو صفة لزوجي ، " شجك " الشج : هو الإصابة بالرأس ، " أو فلك " الفل : هو الإصابة في الجسد ، تصفه بأنه في تعامله معها يضربها بقسوة ، فمرة يشج رأسها ، ومرة يدمي جسمها ، " أو جمع كلا لك " ومرة يجمع الأمرين : الشج والفل .
- " قالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب " تعني : أن جسمه لطيف ، وهو دائما نظيف ، " والريح ريح زرنب " الزرنب : نوع من النبت طيب الرائحة ، تعني بأنه طيب الرائحة ، وهذه لم تذكر في زوجها إلا مدحا ، وهذا المدح يتضمن حسن المعاشرة ، وحسن الأخلاق .
- قالت التاسعة : زوجي رفيع العماد " العماد : هو العمود الذي تقوم عليه الخيمة ، فإذا كان العمود رفيعا عاليا ؛ فهو دليل على سعة الخيمة وكبرها ، فهي تشير إلى أن زوجها مضياف ، فقد وسع بيته لاستقبال الضيوف ، " طويل النجاد " النجاد : هو الذي يكون فيه السيف ، فإذا كان طويلا ؛ فهو دليل على طول الرجل ؛ لأن القصير لا يحمل سيفا طويلا ، وهذا الوصف قد يدل على الشجاعة أيضا ، " عظيم الرماد " الرماد : هو الناشئ عن النار التي توقد باستمرار في البيت إكراما للضيف ، فتصف زوجها بالكرم ، وأن النار توقد في البيت باستمرار لعدم انقطاع الأضياف ، " قريب البيت من الناد " أي : وضع بيته في مكان قريب من مجلس القوم وناديهم ، ص 280
حتى يراه كل وافد ، وكل هذه الأوصاف مدح لهذا الزوج .
- " قالت العاشرة : زوجي مالك " أي : عنده شئ عظيم يملكه ، " وما مالك " أي : ما الذي يملكه ؟ " مالك ، خير من ذلك " خير مما يجول في أذهانكن ، أو ملكه خير مما ذكرت المرأة التاسعة عن زوجها ، أو ملكه خير مما أصفه لكن الآن ، كأنها تشير إلى أن له خيرات كثيرة ،وأنها ستقتصر على ذكر بعضها :
- " له إبل كثيرات المبارك ، قليلات المسارح " المسارح : المكان الذي تذهب إليه الإبل لترعى ، ووصفها للإبل بأنها قليلة المسارح إشارة إلى أن الرجل كثير الأضياف ، فلذلك يستبقي من الإبل في المبارك حتى ينتقي منها ما طاب ليذبحه إكراما لأضيافه ، " إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك " المزهر : آلة من آلات اللهو ، ربما كانت تستعمل عند هذا الرجل عند مجئ الأضياف ، والمعنى أن هذه الإبل إذا سمعت صوت هذه الآلة تأكدت أنه سيذبح منها عدد إكراما للأضياف .
- " قالت الحادية عشرة : زوجي أبو زرع " ، ذكرته بكنيته ـ أبي زرع ـ إشارة إلى مكارم الرجل ، وفضائله المتعددة التي ستذكر بعضها ، " وما أبو زرع " جاءت بهذا الأسلوب تمهيدا لما ستقوله عنه ، " أناس من حلي أذني " ، أناس من النوس ، وهو حركة كل شئ متدل ، يقال : أناس إذا حرك ، تعني أنه قدم لها من الحلي ما تضعه في أذنيها ، وفي هذا إشارة إلى أنواع الحلي التي يغدق عليها من كرمه ، " وملأ من شحم عضدي " أي : أنه كان يكرمها بالطعام والغذاء ، حتى أن جسمها أصبح صحيحا متغذيا ، وخصت العضد بالذكر ؛ لأنه أول ما يقع عليه النظر ، فإذا كان العضد سمينا فهو دليل على الجسم كذلك ، " وبجحني فبجحت إلي نفسي " أي : فرحني ، ص281
ووسع علي ، وأترفني في البيت ، " وجدني في أهل غنيمة بشق " تعني : أنه وجدها في أهلها وليس عندهم إلا اليسير من الغنم بل هم في جهد وتعب ، " فجعلني في أهل صهيل " فنقلني من هذه الحال حتى أصبحت من أهل خيل ، " وأطيط " هن المراحل التي تكون على الإبل ، وهو دليل على كثرة الخيرات التي تحمل عليها ، " ودائس " أي : عنده من يحصد الزرع من القمح ، والذرة ، والشعير ، ونحو ذلك ، " ومنق " وعنده أيضا من ينقي الحبوب ، فهو عنده خدم وعمال ، " فعنده أقول فلا أقبح " أي : لي مكانة ومنزلة , لذلك أتكلم فلا يهينني أحد أو يسئ إلى ، " وأرقد فأتصبح " أي : أنام وأتصبح في أمور طيبة , " وأشرب فأنقمح " أي : أشرب ما شئت من الشراب حتى ارتوى .
- قولها : " أم أبي زرع ، فما أم أبي زرع ؛ عكومها رداح " أي : أحمالها وأعدالها التي تجعل فيها الأمتعة واسعة ، فهو دليل لكثرة متاعها ، " وبيتها فساح " أي : بيتها واسع .
- قولها : " ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع ؛ مضجعه كمسل شطبة " الشطبة : ما شطب من الجريد وهو سعفه ، تعني : أن مضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر مسل شطبة واحدة ، " وتشبعه ذراع الجفرة " الجفرة : وهي الأنثى من أولاد المعز ، تعني : أنه قليل الأكل
والعرب تمدح به .
- قولها : " بنت أبي زرع ، فما بنت أبي زرع ؛ طوع أبيها وطوع أمها " أي : هي بنت مطاوعة ، أخلاقها طيبة وجميلة ، تطيع أباها وأمها ، " ملء كسائها " أي : ليست هزيلة ، فلذلك تملأ لباسها لكونها منعمة ، " وغيظ جارتها " لما هي عليه من خير ونعمة .
- قولها : " جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ؛ لا تبث حديثنا تبثيثا " أي : خادمته جميدة الصفات طيبة الأخلاق ، لا تنشر أخبار البيت ولا أسراره ، " ولا ص 282
تنقث ميرتنا تنقيثا " ، لا تفتش متاعنا وحاجياتنا ، ولا تأخذ منها شيئا ، " ولا نملأ بيتنا تعشيشا " أي : أنها معتنية عناية فائقة بنظافة البيت وترتيبه .
- " قالت : خرج أبوزرع والأوطاب تمخض " أي : خرج أبو زرع في يوم من الأيام في وقت يكثر فيه اللبن في ضروع الماشية ، " فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين " ، لقي امرأة جسمها ممتلئ ، ولها طفلان تحت خصرها ؛ يلعبان برمانتين ففتنته المرأة ، وتعلق بها قلبه ، " فطلقني ونكحها " أي : بعد ما كنت أعيش في هذه النعم طلقني لما فتن بتلك المرأة ونكحها .
كانت أم زرع محبة له ، ولهذا ـ مع أنها مطلقة ـ لم تذكر عنه إلا الأوصاف الجميلة ، وربما نسيت كثير من المطلقات الأوصاف الجميلة لزوجها ؛ فلا تذكر إلا الجانب السيئ .
- قولها : " فنكحت بعده رجلا سريا " أي : شريفا ، " ركب شريا " أي : فرسا عظيما ، " وأخذ خطيا " أي : رمحا فهو صاحب شجاعة ، ومقاتلة ، ومجابهة ، " وأراح علي تعما ثريا " أي : أكرمني بحمر النعم ، " وأعطاني من كل رائحة زوجا " تعني : أنه أكرمها ، وأحسن إليها ؛ فلم يقصر معها في شئ ، " وقال : كلي أم زرع " أي : كلي ما شئت من الطعام ، " وميري أهلك " أي : أعطي أيضا أهلك ، فهذا يدل على أنه كريم معها ، ومحسن إليها ، وإلى أهلها ، " فلو جمعت كل شئ أعطانيه ، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع " ، لو جمعت كل ما أعطانيه هذا الزوج الثاني من الأشياء لم يبلغ أقل ما نلته من أبي زرع ، فهذا ثناء منها بالغ على أبي زرع ، ومدح عظيم له .
- " قالت عائشة : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " ص 283
يتحدث هنا صلى الله عليه وسلم عن جانب معين : وهو الحال الطيبة من الكرم والإحسان وحسن التعامل والمكانة التي كانت تجدها عنده قبل أن يطلقها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " .
والحديث أورده المصنف رحمه الله هنا لبيان مؤانسة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ، سواء بمحادثتهن بما يؤنسهن ، أو بسماع أحاديثهن ، أو بالتعليق الجميل المفرح على حديثهن . ص 284