المذهب الخامس : وذهب أصحاب هذا الرأي الى اعتبار النسخ في هذه الايات ، نقل ذلك ابن الجوزي في نواسخ القرآن ولم ينسبه لأحد بعينه ، قال رحمه الله قوله تعالى : ) وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف فكأنه ظن أن معناها اتك قتلهم فلعلك رأيت بعض الذي نعدهم )(1)ثع عقبرحمه الله على هذا الرأي بقوله " وليس هذا بشيء "(2)
المسألة الخامسة : محاولة معرفة المراد من الوعد والوعيد عند الاطلاق
لا شك أن من الوسائل المتفق عليها في تفسير أي مفردة قرآنية من حيث الاصطلاح أن يرجع الى القرآن الكريم نفسه إن كان لها وجود في مكان آخر وأن لا تصرف عن ظاهرها الا اذا كان هناك مانع من شرع أو عقل يمنع من حملها على ذلك الظاهر، ولكي نتعرف على مظنة مراد الله تبارك وتعالى من الوعد المذكور في الايات الخمسة آنفة الذكر لا بد لنا من الرجوع الى القرآن الكريم عما اذا كان قد فسر الوعد الذي أجمله في هذه الايات ، إذ من القواعد أن المجمل يحمل على المفصل ،كما أن المطلق يحمل على المقيد ، والعام يحمل على الخاص .
في الايات الخمس التي هي محور بحثنا هناك جملة تتكرر فيهن جميعا وهي قوله تعالى ( نريك مانعدهم ) من دون أن يفسر هذا الوعد في هذه المواطن كلها ، لذا فهو يعد من المجمل الذي يفسره ما فصل في موطن آخر إن وجد ، فهل ورد تفصيل في القرآن لما وعد الله به عباده في غير هذه المواطن الخمسة؟ ، الجواب على ذلك ؛نعم فقد صرح القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدا ، انه وعد عباده المؤمنين بالجنة ونعيمها ، ووعد عباده الكافرين بالنار وعذابها ، وهذا أمر لا يحتاج الى عناء من أجل إثباته ، ونكتفي للتدليل عليه ببضع آيات :
اولا : الايات التي تصرح بحقيقة ما وعد الله عباده المؤمنين :
__________
(1) 23. ... ـ نواسخ القران 18 ،جمال الدين ابو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ( ت 597 هـ ) دار الكتب العلمية ـ بيروت .
(2) 24. ... ـ المصدر السابق 18.
كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء:122) .
وقوله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة:9). وقوله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:72).
وقوله تعالى (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) (الزمر:20). وقوله تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10) وأجمع المفسرون على أن الحسنى هنا هي الجنة(1).
ثانيا : الايات التي تبين حقيقة ما وعد الله به الكافرين :
__________
(1) 25. ... ـ انظر تفسير ابن كثير 1 / 542 ،واحكام القران للجصاص 3 / 227 ابو بكر احمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370 هـ ) ط1 ـ 1415 ، دار الكتب العلمية ، وتفسير السعدي 1 / 839 ، عبد الرحمن بن ناصر السعدي تحقيق ابن عثيمين مؤسسة الرسالة بيروت ـ 1421 ، واضواء البيان للشنقيطي 1 / 248 ، محمد صلى الله عليه وسلم الامين بن محمد صلى الله عليه وسلم المختار الشنقيطي (ت 1393 هـ )1415ـ دار الفكر ـ بيروت.
كقوله تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (التوبة:68).
وقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (يونس:4).
وقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) (الرعد:35) .
فهذه الايات التي ذكناها وكثير غيرها تنص صراحة على أن الله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالجنة والجزاء الجزيل ، ووعد الكافرين بالنار والعذاب الاليم ، بغض النظر عما وعد به الكفار من الهزيمة والاذلال ، وما وعد به المؤمنين من النصر والتمكين في الدنيا . وأن المتبادر الى الذهن عند الاطلاق هو الوعد الاخروي لسببين :
الاول : أن هذا الوعد المجمل في الايات الخمسة آنفة الذكر فصله وبين معناه القرآن الكريم في الايات التي ذكرناها وبالتالي يجب حمل المجمل على المفصل ولا إجتهاد في مورد النص .
وثانياً: عدم وجود مانع شرعي ، أو مانع عقلي من حمل النص على ظاهره ، وإذا انتفى وجودالمانع الشرعي أوالعقلي وجب حمله على ظاهره كما نص على ذلك العلماء في كتب الفقه والاصول ؛ فحينما اختلف العلماء في حقيقة الاسراء هل كان بروحه ( ام كان بروحه وجسده ، كان من أبرز الدلة من قالوا ان الاسراء كان بالروح والجسد هو مادلت عليه ظواهر النصوص مع انتفاء المانع من حملها على الظاهر : قال الامام النووي في هذا الصدد : " والحق الذي عليه اكثر الناس ، ومعظم السلف ، وعامة المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين ، أنه أسري بجسده ( ، والاثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ولا يعدل عن ظاهرها الا بدليل ،ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج الى تأويل"(1)
إذن فصرف هذا الوعد المذكور في ايات بحثنا عن ظاهرها أمر يحتاج الى دليل ، وعد وجود المانع من حملها على ذلك الظاهر يقوي ما نريد إثباته ،فلماذا لانقول ان الله بشر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( بوقوع الاسراء مع ايماننا أنه قد وقع فعلا ، وكيف نخصص ما وعد الله به الناس بما وقع للمشركين يوم بدر وهو وعد خاص لا ينصرف اليه الذهن الا بدليل ، ولا دليل هنا ، وإنما الاصل ابقاء النص على ظاهره وتفسير الوعد في هذه الايات بما فسره القرآن الكريم نفسه .
المسألة السادسة :ربط الوعد بالإراءة في آيات البحث بما هو موجود في سورتي التوبة والنجم
لو استعرضنا الايات التي تشكل محور بحثنا ، لوجدنا أن هذه الايات تشترك في أمر واحد ، وهو الوعد بالإراة ، فضلا من الله تبارك وتعالى على نبيه ( فقوله تعالى ( نريك ) لفظ مشترك بينهن جميعا ، وتحديد الوعد الرباني ل محمد صلى الله عليه وسلم ( بالإراءة يجعل حدود بحثنا ظمن إطار الايات التي تتحدث عن الرؤية .
__________
(1) 26. ... شرح النووي على مسلم 2 /209 .
وإذا استعضنا القران الكريم وحاولنا أن نحدد الايات التي تتحث عن اراءته ( أو عما رأى ( لوجدنا شيئا ينفعنا في بحثنا هذا . فالوعد بالاراءة من غير آيات بحثنا ورد مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة الاسراء في الاية التي تتحدث عن الغاية من الاسراء قال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الاسراء:1) فكأن الله تبارك وتعالى حينما وعد نبيه ( بأنه سيريه ما وعد به عباده من جنة أو نار أراد أن يذكرنا بأن الغاية من الاسراء هو إراءة النبي صلى الله عليه وسلم ( ما وعد به عباده الذي عبر عنه بـ ( من آياتنا ) لانه لا أعظم ولا أدل على الله تعالى من أن يرى العبد الجنة والناربعينيه.
والكلام عما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ( من الايات الكبرى ، ورد كذلك في القرأن الكريم في آيتين في سورة النجم وهما قوله تعالى : ( أفتمارونه على يرى ) ( النجم 11 ) وقوله تعالى : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ( النجم 18 ) وهما من الايات التي تتحدث عن الاسراء والمعراج ، فلا وجود في القران الكريم حديث عن الاراءة أو الرؤية الا وهو مرتبط بالاسراء والمعراج .
المسألة السابعة : الوجوه الواردة في القرآن والسنة في تحقيق هذا الوعد.
إن المستعرض للاحاديث التي تتكلم عن الاسراء والمعراج يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قد صرح بوجوه متعددة عما أراه الله تبارك وتعالى مما وعد به عباده .
ولو أردنا أن نستعرض في أذهاننا الصور المحتملة للإراءة الموعودة بنص القرآن الكريم لاستطعنا أن نحصي ثلاثة انواع من الرؤية من حيث التقسيم العقلي الممكن وهي الاتي :
? الرؤية البصرية
? الرؤية القلبية
? الرؤية المنامية
ثم نستطيع أن نقول بعد ذلك أن الرؤية يمكن أن تكون حقيقة في الموعود به . ويمكن ان تكون من باب المجاز .
الان وبعد هذا لا بد أن نسأل أنفسنا ترى ماذا تحقق للنبي ( من هذه الانواع من الرؤى ؟
اولاَ : الرؤية البصرية: والمقصود من الرؤية البصرية تحقق العلم بالشيء من خلال انعكاس صورته في العين باعتبار أن العين من أهم وسائل المعرفة، ولهذا حينما تكلم رب العزة عن درجات العلم ذكر العين فقال سبحانه وتعالى (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر:3 ـ 7) ، فالعلم الذي يقوم على الحس والمشاهدة من أرسخ أنواع العلم وآكدها ، ألم تر الى سيدنا ابراهيم حينما طلب اليقين القلبي لم يجد ما يحقق به ذلك الاطمئنان الا بالرؤية البصرية :قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260)
فإذا كان للرؤية البصرية كل هذا السلطان على القلوب هل يجوز لنا أن نتصور أن لا تحقق هذه الرؤية للنبي ( وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أراد له رب العزة أن يكون خاتم الانبياء والمرسلين . فمما يشهد لنا على صحة ما نذهب اليه من إراءة الله لنبيه ( ما وعد عباده به في الدنيا جملة من الاحاديث النبوية الشريفة.
? فقد روى انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال "رأيت ليلة أسري بي مكتوب على باب الجنة :الصدقة بعشر امثالها والقرض بثمانية عشر ...الحديث "(1)
__________
(1) 27 ـ المعجم الاوسط / 7 / 16 ، سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (ت 360 هـ ) تحقيق ابراهيم الحسيني مطبعة الحرمين ـ مكة.
? وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (" رأيت ليلة أسري بي رجلا يسبح في نهر ويلقم الحجارة فسألت من هذا؟ فقيل لي آكل الربا"(1)
? وعن أنس رضي الله عنه قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول :رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟فقال خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون انفسهم وهم يتلون الكتاب افلا افلا يعقلون "(2)
? وعن أنس ايضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( " دخلت الجنة فإذا انا بنهر من اللؤلؤ فضربت بيدي الى ما يجري في الماء فإذا مسك اذفر قلت ما هذا يا جبريل فقال هذا الكوثر الذي اعطاكه الله "(3)
والذي يجعلنا نطمئن الى أن هذه الرؤية المذكورة في هذه الاحاديث رؤية حقيقية بمعنى أنها بصرية ثلاثة أمور :
الأول: ان اغلب العلماء ذهبوا الى ان الاسراء كان بالروح والجسد ومعنى ذلك أن ما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ( عنه أنه رآه ليلة الاسراء والمعراج فإنما يحمل على الحقيقة إذ لو لم تكن الرؤية حقيقة فلا معنى لكون ااسراء حدث بالروح والجسد، فكيف يعقل ان يسري الله تعالى بنبيه ( ـ بروحه وجسده ـ ثم لا تكون الرؤية المتحققة حقيقية .
__________
(1) 28 ـ مسند أحمد 5 / 10 ، ابو عبد الله احمد بن حنبل الشيباني ( ت 241 هـ )، دار صادر بيروت
(2) 29 ـ مسند ابن المبارك /15 ، للامام عبدالله بن المبارك ( ت 181 هـ ) تحقيق صبحي السامرائي ،ط1 ـ 1407 ، مكتبة المعارف ـ الرياض . ومسند ابي يعلى 7 /69 ، احمد بن علي بن المثنى الموصلي (ت 307 هـ ) تحقيق حسين سليم أسد ، دار المأمون للتراث ، دمشق . وكتاب الصمت وآداب اللسان /249 ، عبدالله بن محمد صلى الله عليه وسلم بن عبيد بن ابي الدنيا (ت 281 هـ ) تحقيق ابو اسحق الجويني ط1 ـ 1410 ، دار الكتاب العربي بيروت . ومصنف ابن ابي شيبة /8 /446 ، والمعجم الاوسط للطبراني /1 / 131 .
(3) 30 ـ مسند أحمد / 3 / 103 ،المستدرك على الصحيحين للحاكم /1 /80 .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( عبر عن تلك الرؤية بقرينة مادية تمنع صرف الرؤية المتحققة الى أي معنى مجازي أخر وهو قوله ( " دخلت الجنة ليلة اسري بي " فالدخول لا يمكن الا ان يكون حقيقيا ، اذ لم يعهد في كلام العرب خروجه الى معنى أخر ، فإذا سلمنا بذلك سلم لنا أن لازمه لا بد أن يكون هو الآخر حقيقيا ، فلا يعقل ان يدخل شخص الى مكان معين ويخبر أنه رأى شيئا ما في ذلك المكان ثم يأتي من يقول لنا إن الرؤية غير حقيقية ،مع عدم وجود المانع من حمل اللفظ على ظاهره .
الثالث : أن الرؤية في العربية حينما تطلق من دون قرينة صارفة الى جهة معينة أو مانعة ، فإنما يراد بها الرؤية الحقيقية البصرية المتحققة بواسطة العين الباصرة.
ثانياً : الرؤية القلبية : ولا نقصد بهذه الرؤية هنا حصول اليقين القلبي في أمر من الامور كقول الشاعر ابي الاسود الدؤلي :
رأيت الله خالق كل شيء هداهم واجتبى منهم نبيا(1)
أو كقول الشاعر أبي العلاء المعري:
رأيت قضاء الله أوجب خلقه وعاد عليهم في تصرفهم سلبا(2)
فاشاعران هنا لا يتحدثان هنا عن رؤية حقيقية ،بمعنى انكشاف المرئي وتجليه
امام الرائي، وإنما هما يتحدثان عن حصول اليقين القلبي في المسألة التي يريدان طرحها، وليس هذا موضوع بحثنا وإنما نريد ان نثبت ان الله جل وعلا كشف الحجب أمام النبي صلى الله عليه وسلم ( فرأى ما لم يره الجالسون من حوله لأنه نبي متصل بوحي السماء
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (" خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة قذكر فيها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل ...... وفيه فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار أنفافي عرض هذا الحائط فلم أر كالخير والش"ر(3)
__________
(1) 31 ـ انظر ديوان أبي الاسود الدؤلي
(2) 32 ـ انظر ديوان ابي العلاء المعري
(3) 33ـ صحيح البخاري 1/136 ، محمد صلى الله عليه وسلم بن اسماعيل البخاري ( ت 256 هـ ) دار الفكر ـ بيروت . صحيح مسلم 7/90 .
وعن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ( قال :" ايها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا كسق أحدهما فافزعوا الى المساجد فوالذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة حتى لو أشاء لتعاطيت بعض أغصانها وعرضت علي النار حتى أني لأطفئها خشية أن تغشاكم"(1)
وفي رواية البخاري عن ابن عباس :أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال لما كسفت الشمس."رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع منها"(2)
وفي المعجم الكبير للطبراني عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال :" رأيت المار فرأيت فيها عمران بن حرثان متكئا على قوسه وكان يسق الحاج ورأيت صاحبة القطة من حمير"(3)
وفي صحيح ابن حبان عن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول ( "عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو لحيبن ممتعة بن خندف يجر قصبه في النار وكان أول من غير عهد ابراهيم وسيب السوائب وكان أشبه شيء بأكثم بن ابي الجون فقال الاكثم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يضيرني شبهه قال إنك مسلم وهو كافر"(4).
وفي كنز العمال للمتقي الهندي تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم ( بأن كل ماوعد الله به عباده قد عرض عليه ( ،فعن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال : والذي نفسي بيده ما من شيء وعدتموه في الاخرة إلا عرض علي في مقامي هذا"(5)
وهذا النص لا يمكن تأويله الى أي معنى آخر ،أو صرفه عن ظاهره إذ لا موجب لذلك ولا مانع من فبول ذلك الظاهر.
__________
(1) 34ـ مسند أحمد 2/59 .
(2) 35 ـ صحيح البخاري 1/111 ،التخويف من النار لإبن رجب الحنبلي 32 .
(3) 36 ـ المعجم الكبير للطبراني 17 /315 ،سليمان بن احمد بن ايوب الطبراني ( ت 360 هـ )تحقيق حمدي السلفي ط2 احياء التراث العربي.
(4) 37 ـ صحيح ابن حبان /16 /535. محمد صلى الله عليه وسلم بن حبان بن احمد ( ت 354 هـ ) تحقيق شعيب الارنؤوط ، ط2 ـ 1414، مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
(5) 38 ـ كنز العمال 14 / 543 . المتقي الهندي ( ت 975 هـ ) تحقيق الشيخ بكري حياني والشيخ صفوة السقا ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت .
ثالثا:الرؤية المنامية/ فقد أرى الله سبحانه وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( ماوعد به عباده في الدنيا عن طريق الرؤيا في المنام ، وممعلوم أن رؤيا الانبياء حق لا مراء فيها ولا أدل على ذلك من قصة ابراهيم عليه السلام مع ابنه اسماعيل التي ذكها القرآن فحينما قص ابراهيم عليه السلام الرؤيا على ولده قال : )َ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى )(الصافات: من الآية102) وحينما أجاب اسماعيل عليه السلام قال : (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102) حيث عبر عن الرؤيا بالامر وهو ماعده العلماء تأصيلا للقاعدة الفقهية من اعتبار رؤيا الانبياء تختلف عن رؤيا غيرهم من البشر . إذا ما أضفنا إليه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في الاحاديث في هذا الباب :
اخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها "أول مابدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح(1).
وعن أبي رزين العقيلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( :"الرؤيا جزء من أربعين أو ستة وأربعين جزءا من النبوة" .(2)
__________
(1) 39ـ صحيح البخاري1/3 ،مسند أحمد 6/153 ،مصنف عبد الرزاق 5/321، ابو بكر عبدالرزاق ( ت 211 هـ ) تحقيق حبيب الرحمن الاعظمي منشورات المجلس العلمي ـ باكستان ، وسبل السلام 3/164، محمد صلى الله عليه وسلم بن اسماعيل الصنعاني (ت1182 هـ ) ط4 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر 1979 ، نيل الاوطار 2/276 ، محمد صلى الله عليه وسلم بن علي بن محمد صلى الله عليه وسلم الشوكاني ( ت 1255 هـ )دار الجيل بيروت .
(2) 40 ـ مسند أبن الجعد 256، علي بن الجعد بن عبيد الجوهري ( ت 230 هـ ) ، تحقيق ابي القاسم عبد الله بن محمد صلى الله عليه وسلم البغوي وعامر احمد حيدر ، دار الكتب العلمية ـ بيروت . وا لمعجم الكبير للطبراني 19/205 ،سير أعلام النبلاء للذهبي 18 / 398 .
قال ابن حجر رحمه الله معلقا على هذا الحديث :" قوله دخلت الجنة أو دخلت الجنة "يحتمل أن يكون ذلك في اليقظة أو في النوم فبين هذا الحديث [ يعني الرواية الثانية ]أن ذلك كان في النوم " .(1)
فمن الاحاديث التي يستشهد بها على هذه الرؤية:
? ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال دخلت الجنة أو أتيت الجنة فأبصرت قصرافقلت لمن هذا ؟قالوا لعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخله فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وامي يانبي الله أوعليك أغار"(2)
? .وفي رواية عن ابي هريرة " بينا انا نائم رأيتني في الجنة ... الحديث "(3)
* وكذلك ما رواه الترمذي عن أبي بريدة قال" اصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فدعا بلالا فقال : يا بلال بم تستبقني الى الجنة ما دخلت الجنة قط الا سمعت خشخشتك أمامي ، دخلت البارحة فسمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مريع فقلت لمن هذا القصر قالوا لرجل من العرب فقلت : انا عربي لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ( فقلت :انا محمد صلى الله عليه وسلم لمن هذا القصر ؟ فقالوا لعمر بن الخطاب"قال الترمذي : (حديث حسن صحيح غريب ،ومعنى هذا الحديث ، أني دخلت البارحة الجنة يعني في المنام،كأني دخلت الجنة ،وروي عن ابن عباس : رؤيا الانبياء وحي )(4)
وفي الحديث عدة مسائل يجب الوقوف عليهما .
__________
(1) 41 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 /325 ، احمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ ) ط2 ، دار المعرفة، بيروت .
(2) 42 ـ صحيح البخاري 5/2003 .
(3) 43 ـ المصدرنفسه 3/3146 .
(4) 44 ـ سنن الترمذي 5 /282 .، ابو عيسى محمد صلى الله عليه وسلم بن عيسى الترمذي ( ت 279 هـ ) تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ، 1403 ، دار الفكر ـ بيروت .
الاولى /أن النبي صلى الله عليه وسلم ( صرح أنه كان كثيرا ما يدخل الجنة ، وأن ما ذكره (في هذا الحديث إنما اراد به التمثيل والاستشهاد على كثرة ما كان يرى بلالا في الجنة ،يدل على ذلك قوله ( "ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي"
الثانية/ أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال" دخلت الجنة" ولم يقل رأيت كأني أدخل الجنة ثم إذا سلمنا أن رؤيا الانبياء وحي كما نص على ذلك حبر الامة فلا يبقى داع لأن ناتي بكاف التشبيه التي اوردها الترمذي في شرحه للحديث حينما قال معنى هذا الحديث " إني دخلت البارحة الجنة" في المنام كأني دخلت الجنة " إذ لا يجوز لنا أن نأتي بقيود لم ترد في النص تكون سببا في عدم حمله على الظاهر المصرح به.
الثالثة/أن معنى قول الترمذي بعد ايراده للحديث بأنه (حديث حسن صحيح غريب) حكم منه بصحة الحديث ومعنى الغرابة المذكورة هنا انفراد أحد الرواة في سلسلة اسناده ، والتفرد مع توفر شروط صحة الرواية لا يضر بصحة الحديث مطلقا.
إذا فبعد كل هذا يتضح لدينا بما لا يقبل الشك أن جميع صور الرؤية الممكنة لما وعد به عباده من جنة أو نار قد حققها الله تبارك وتعالى لنبيه الكريم ( من اجل تثبيت فؤاده عليه افضل الصلاة والسلام :
فقد أراه الله ذلك عيانا في الاسراء والمعراج ، وأراه ذلك بقلبه وهو في الصلاة من دون أن يشاركه المؤمنون الذين كانوا يصلون معه في تلك الرؤية ، وأراه ذلك في منامه ( كما صرح هو بذلك في الاحاديث التي سقناها قبل قليل.
الخاتمة
في نهاية هذا البحث البسيط أود أن اسجل اهم النتائج التي توصلت اليها :
? إن الاسراء والمعراج هو تكريم من الله لنبيه ( وليس دليلا على نبوته ، لأن المعجزات من شروطها أن تكون أمام من يراد اعجازهم هذا اولا ،وثانيا إن الثمرة المرجوة من المعجزة هي قيادة الناس الى الايمان . وكلا هذين الامرين غير متوفرين في حادثة الاسراء والمعراج فلم تحدث أمام الناس ولا تحدى النبي صلى الله عليه وسلم ( الناس به هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،كانت هذه الحادثة سببا في أن أفتتن ضعاف اليمان في إيمانهم بسببها.
? إن القران الكريم تحدث كثيرا عما سيقع من الحوادث مما هو أقل شأنا من الاسراء والمعرج ، وبالتالي فلا غرابة إذا ما وجدنا أن بالمكان توجيه نصوص معينة كأرهاصات بوقوع مثل هذا الامر العظيم.
? أن هذا البحث لم يخرق إجماعا للمفسرين في هذه المسألة، الامر الذي يشجعنا على إدامة النظر في هذه الايات التي اختلف المفسرن في توجيهها,
? إن هذا التوجيه الذي طرحناه في هذا البحث اكثر استيعابا وانسجاما مع ماورد من أحاديث عنه ( في هذا الباب ، فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم ( بما لا يقبل الشك أنه " ما وعدتم بشيء الا عرض علي"وهو نص في معرض الخلاف، أو قل هو من باب تفسير القرآن بالسنة التي أرادها الله أن تكون بيانا لكتاب الله سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اله على رسوله الامين وآله وأصحابه الطاهرين الى يوم الدين .....آمين