باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
الخلق هو ما يتعلق بآداب الإنسان الباطنة ، مثل الصبر والحياء والكرم ، وما يتعلق بآدابه الظاهرة ،كحسن المعاملة وصدق اللهجة وطلاقة الوجه وغير ذلك .
والخلق ينقسم إلى خلق حسن ، وخلق سئ ؛ فالخلق الحسن هو التحلي بالفضائل ؛ بالاتصاف بها وملازمتها ، وحمل النفس على الانضباط بضوابطها والتخلي عن الرذائل ؛ بالبعد عنها ومجانبتها ، والخلق السئ ضد ذلك .
وخلق النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل الخلق وأحسنه وأطيبه ، فكان خلقه القرآن ، فلا تجد في القرآن الكريم من خلق وأدب ، ومعاملة ودعوة لفضيلة ونهي عن رذيلة إلا ونبينا صلى الله عليه وسلم متصف بذلك أتم الاتصاف وأكمله .
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث في الحث على مكارم الأخلاق ، والدعوة إليها ، وبيان فضلها ، وعظيم ثوابها عند الله تعالى ، وجماعها في أربعة أحاديث من حفظها وحققها جمع أصول الأخلاق والآداب :
الأول : ما رواه الشيخان " البخاري 6475 ، ومسلم 47 "
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ص 374
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فليقل خيرا أو ليصمت " .
والثاني : ما أخرجه الترمذي " جامع الترمذي 2318 " من حديث على بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " .
والثالث : ما رواه البخاري 6116 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : " لا تغضب " ، فردد مرارا قال " لا تغضب " .
والرابع : ما رواه الشيخان " أخرجه البخاري 13 ، ومسلم 45 " من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
قال أبو محمد بن أبي القيرواني : " جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث ... " نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 288 " وذكرها .
وفي الحديث الأول الإرشاد إلى ضبط اللسان ، بالتفكر والتدبر فيما سيقوله ، فإن كان فيه خير نطق به ، وإن كان فيه شر أمسك عنه ، وإن اشتبه عليه فلا يدري أخير هو أم شر أمسك عنه ، ومن لم يحسن ضبط لسانه لم يكن من أهل حسن الخلق .
وفي الثاني الإرشاد إلى ترك الفضول ، من القول والسماع والنظر ونحو ذلك .
وفي الثالث الإرشاد إلى ضبط النفس وعدم الانسياق مع انفعالات النفس ورعونتها
وفي الرابع الإرشاد إلى سلامة قلب المؤمن تجاه إخوانه المسلمين ، فلا يكون ص 375
فيه غل ، ولا حقد ، ولا حسد ، ولا غير ذلك من أدواء القلوب .
343- حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ قَالَ : حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَارِجَةَ ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : دَخَلَ نَفَرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فَقَالُوا لَهُ : حَدِّثْنَا أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَاذَا أُحَدِّثُكُمْ ؟ كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بَعَثَ إِلَيَّ فَكَتَبْتُهُ لَهُ ، فَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا ، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا ، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا ، فَكُلُّ هَذَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " في إسناده الوليد بن أبي الوليد ، وهو لين الحديث ، وسليمان بن خارجة مجهول . "
- قوله : " دخل نفر على زيد بن ثابت ، فقالوا له : حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، في هذا حرص السلف على سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : " ماذا أحدثكم " يشير بهذا إلى تنوع ما يحفظ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شمائله وأخلاقه وآدابه وغير ذلك ، قوله : " كنت جاره " يعني : بيتي قريب من بيته ، وهذا أدعى لمزيد المعرفة بشمائله عن كثب ، " فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له " , فقد كان رضي الله عنه كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا إشارة إلى قربه من النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى ، وهي كونه كاتبا للوحي .
- قوله : " فكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا " ، يذكرها صلى الله عليه وسلم معهم ببيان الزهد فيها وعدم الانشغال بها ، وبيان هوانها عند الله تعالى ، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، ويضرب لهم في ذلك الأمثال الكثيرة . ص 376
- قوله : " وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا " أي : يذكرها معهم بالتشويق إليها ، وبيان أنها دار القرار ، وبيان ما فيها من الثواب للمحسنين ، والعقاب للمسيئين .
- قوله : " وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا " ، يذكره ببيان آدابه وفوائده ، وخصائص بعض الأطعمة .
- قوله : " فكل هذا أحدثكم عن رسول الله " يعني : هذا باب واسع وكبير ، فلخصه لهم في هذا الإجمال .
344- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَيَّ ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ الْقَوْمِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ أَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ : عُمَرُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُثْمَانُ ؟ قَالَ : عُثْمَانُ ، فَلَمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَقَنِي فَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ. " في إسناده يونس بن بكير ،وهو صدوق يخطئ ، ومحمد بن إسحاق مدلس ؛ وقد عنعن . "
- قوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك " أي : إذا جاء إلى مجلسه من هو فظ غليظ يعرف بسوء المعاملة والخلق يلقاه صلى الله عليه وسلم بالوجه الطليق ، والمعاشرة الطيبة له ، فيجعل وجهه صلى الله عليه وسلم قبال وجهه ، ويقبل عليه بالحديث . ص 377
فمثل هذه الأخلاق الفاضلة الرفيعة الكاملة هي التي تجذب القلوب الشاردة ، والنفوس المعرضة ، وتجعلها تحب الخير .
- قوله " فكان يقبل بوجهه وحديثه علي ، حتى ظننت أني خير القوم " يعني : يلقاني بالبشر ، ويقبل علي بالحديث حتى حسبت أني أفضل أصحابه صلى الله عليه وسلم ، " فقلت : يارسول الله ؛ أنا خير أو أبوبكر ؟ قال أبوبكر ، فقلت : يا رسول الله ؛ أنا خير أو عمر ؟ فقال عمر ، فقلت : يا رسول الله ؛ أنا خير أو عثمان ؟ قال : عثمان ، في هذا إشارة إلى أنه متقرر في نفوس الصحابة أجمع أن خيرهم على الإطلاق أبوبكر ، ثم عمر ، ثم عثمان رضي الله عنهم ، لذلك خصهم بالذكر بدءا بالأفضل ، ثم الفاضل .
وفي البخاري 3655 عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم " .
- قوله : " فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني ، فلوددت أني لم أكن سألته " ليبقى علي الظن الذي كان عنده سابقا أنه خير القوم .
345- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا ، وَلاَ مَسَسْتُ خَزًّا وَلاَ حَرِيرًا وَلاَ شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلاَ شَمَمْتُ مِسْكًا قَطُّ وَلاَ عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " أخرجه البخاري 6041 ، ومسلم 2330 ، والمصنف في جامعه 2015 " ص 378
- قوله : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين " ، هذا تمهيد لما سيقوله ؛ لأن الخدمة عشر سنوات تكشف للخادم بجلاء خلق مخدومه .
- قوله : " فما قال لي أف قط " مع أنه لا بد أن يحصل تقصير وأخطاء ، ولا سيما مع طول المدة ؟ ومع ذلك ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم أف قط ، فما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم .
- قوله : " وما قال لشئ صنعته لم صنعته ، ولا لشئ تركته لم تركته " أي : لم يقل لشئ صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشئ لم أصنعه وكنت مأمورا به : لم لم تصنعه ، وهذا فيما يتعلق بالخدمة والآداب ، لا فيما يتعلق بالتكاليف الشرعية ؛ فإنه لا يجوز ترك الاعتراض على المقصر فيها . وفيه أيضا مدح لأنس ؛ فإنه لم يرتكب أمرا يتوجه إليه من النبي صلى الله عليه وسلم اعتراض ما طوال هذه المدة .
- قوله " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا " ، وهذا إجمال بعد تفصيل ، فكان صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا في أقواله وأفعاله وآدابه وتعاملاته .
- قوله : " ولا مسست خزا ، ولا حريرا ، ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الخز : نوع من القماش ، مكون من حرير وغيره ، فكانت كفه لينة ، بل هي ألين من الخز والحرير وكل شئ لين مسه أنس رضي الله عنه .
- قوله : "ولا شممت مسكا قط ، ولا عطرا كان أطيب من عرق النبي " ، كان عرقه صلى الله عليه وسلم طيب الرائحة ، وهذا مما أكرمه الله سبحانه به .
346- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَأَحَمْدُ بْنُ عَبْدَةَ هُوَ الضَّبِّيُّ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، قَالاَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ ص 379
عِنْدَهُ رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يكَادُ يُواجِهُ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ لِلْقَوْمِ : لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَدَعُ هَذِهِ الصُّفْرَةَ." أخرجه أبو داود في السنن 4182 ، وإسناده ضعيف ؛ لأن فيه سلما العلوي ، وهو ضعيف "
- قوله : " كان عنده رجل به أثر صفرة " ، الصفرة تكون من الزعفران ، ومن غيره ، توضع على الثياب ، أو على مواضع من البدن للزينة , وهي من طيب النساء ؛ لأنه مما يخفى ريحه ، ويظهر لونه .
- قوله : " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يواجه أحدا بشئ يكرهه " يعني : أن غالب طريقته صلى الله عليه وسلم عدم المواجهة بما يكرهه الإنسان ، لكنه صلى الله عليه وسلم قد يفعل ذلك إن اقتضته المصلحة .
- قوله : " فلما قام قال للقوم : لو قلتم له يدع هذه الصفرة " ، فلم يواجهه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وإنما أمر بعض القوم أن ينبهوه .
347- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ وَاسْمُهُ عَبْدُ بْنُ عَبْدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ ، وَلاَ يَجْزِىءُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. " أخرجه المصنف في جامعه 2016 "
- قولها : " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا " أي : لم يكن الفحش من هديه صلى الله عليه وسلم ولا من خلقه ، فلم يكن فاحشا في الأقوال ، ولا متفحشا في الأفعال . ص 380
- قولها " ولا صخابا في الأسواق " ، الصخاب : هو الذي يرفع صوته .
- قولها " ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح " أي : إذا أساء إليه أحد لا يقابل سيئته بسيئة مماثلة لها ، مع أن مجازاة السيئة بسيئة مماثلة لها مباح لقوله تعالى :" وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا " الشورى 40، والأفضل من هذا والأكمل هو الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم من العفو والصفح ؛ لقوله تعالى في تتمة الآية السابقة : "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) الشورى
348- حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَةُ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلاَ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلاَ ضَرَبَ خَادِمًا أَوِ امْرَأَةً. " أخرجه مسلم 2328 "
- قولها : " ولا ضرب خادما ، ولا امرأة " ، هذا تخصيص بعد تعميم ؛ لأنه داخل في قولها : " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله " ، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج الأخطاء بالضرب ، بل ربى أصحابه تربية عظيمة بحيث كان لا يواجه أحدا بما يكرهه ، بل يتغير وجهه فيعرف أصحابه كراهته لذلك ، وهي تربية ليس لها نظير .
349- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ ص 381
مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ يُنْتَهَكْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ ، فَإِذَا انْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ شَيْءٌ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا ، وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا. " أخرجه البخاري 3560 ، ومسلم 2327 "
- قولها : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط " فما كان يغضب لنفسه أو ينتصر لنفسه ، " ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شئ ، فإذا انتهك من محارم الله تعالى شئ ، فإذا انتهك من محرم الله شئ كان من أدهم في ذلك عضبا " ، فإذا انتهكت محارم الله تعالى غضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، " وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما " ، إذا خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين ليفعل أحدهما ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يختار الأيسر منهما ، ما لم يكن من الأمور التي توقع في الإثم ، فالأمور التي توقع في الإثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحاشاها ويحذر منها .
350- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتِ : اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ : بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ ، فَأَلاَنَ لَهُ الْقَوْلَ ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ ؟ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. " أخرجه البخاري 6032 ، ومسلم 2591 ، والمصنف في جامعه 1996 "
قولها : " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده " قيل : إن الرجل هو عيينة ابن حصن ، وقيل : هو مخرمة بن نوفل ، وفقه الحديث لا يترتب على معرفة اسمه . ص 382
هذا الرجل استأذن ليدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ، " فقال : بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة " المعنى واحد ، والعشيرة هي القوم والقبيلة ، وفي هذا تنبيه إلى ما عند هذا الرجل من فظاظة ، " ثم أذن له " أي : أذن له أن يدخل ، فلما دخل " ألان له القول " أي : أخذ صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه بكلام لين .
- " فلما خرج قلت : يارسول الله ! قلت ما قلت ، ثم ألنت له القول " ، كأنها تستغرب من حال الرجل التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم إلانة القول له ، ومقابلته بالبشاشة ، وطلاقة الوجه ، وحسن الترحيب ، فلما سألته عن ذلك قال : " يا عائشة ! إن من شر الناس من تركه الناس ، أو ودعه الناس اتقاء فحشه " أي : من تركه الناس لما عنده من فحش في قوله .
فمثل هذا إذا قوبل بغير اللين صدرت منه أمور عظيمة منكرة ، فالأولى أن يقابل بالحسنى دفعا بالتي هي أحسن واتقاء لشره .
351- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ قَالَ : أَنْبَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ زَوْجِ خَدِيجَةَ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ الْحُسَيْنُ : سَأَلْتُ أَبِي ، عَنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُلَسَائِهِ ، فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ ، سَهْلَ الْخُلُقِ ، لَيِّنَ الْجَانِبِ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ ، وَلاَ صَخَّابٍ وَلاَ فَحَّاشٍ ، وَلاَ عَيَّابٍ وَلاَ مُشَاحٍ ، يَتَغَافَلُ عَمَّا لاَ يَشْتَهِي ، وَلاَ يُؤْيِسُ مِنْهُ رَاجِيهِ وَلاَ يُخَيَّبُ فِيهِ ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاَثٍ : الْمِرَاءِ وَالإِكْثَارِ وَمَا لاَ يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاَثٍ : كَانَ لاَ يَذُمُّ أَحَدًا وَلاَ يَعِيبُهُ ، وَلاَ يَطْلُبُ عَوْرتَهُ ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ ، فَإِذَا ص 383
سَكَتَ تَكَلَّمُوا لاَ يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ وَيَقُولُ : إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ حَاجَةٍ يِطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ ، وَلاَ يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ وَلاَ يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ.
- وهو حديث طويل جزأه المصنف رحمه الله في مواضع من هذا الكتاب . وسبق الإشارة إلى ما فيه من ضعف .
- قوله : " سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه " أي : كيف كان هديه وتعامله صلى الله عليه وسلم مع جلسائه ، " فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر " يعني : دائما يلقي جلساءه بطلاقه الوجه والبشاشة ، " سهل الخلق " أي : أخلاقه سهلة ، فيه صلى الله عليه وسلم اللين والسماحة والرفق والأناة وطيب المعاملة ، " لين الجانب " ، وفيه الدلالة على تواضعه صلى الله عليه وسلم ، وخفض جناحه للمؤمنين ، " ليس بفظ ولا غليظ " ، لا يعامل من يلقاه بالجفوة ولا بالقسوة ، فليس بفظ الخلق ولا غليظ القلب ، وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك لا بالقسوة ، فليس بفظ الخلق ولا غليظ القلب ، وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال تعالى " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " آل عمران 179 ، أي : لا نصرفوا من عندك ؛ لأن غليظ القلب فظ التعامل ينفر الناس منه ، ولا يقبلون عليه ، والقلب إذا كان غليظا تبعته الجوارح في الغلظة والقسوة .
- قوله : " ولا صخاب " ، الصخب : هو اللجج ورفع الصوت ، قال تعالى : ص 384
" وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) سورة لقمان "
- قوله : " ولا فحاش " ، من الفحش ، وهو السئ من القول والفعل ، قوله : " ولا عياب " أي : لا يعيب الأشياء الطيبة ، ولا الأمور الحسنة ، لكن المنكر يعيبه ويذمه ، قوله : " ولا مشاح " ، المشاح : هو الذي يبخل بنفسه ، ويرغب فيما عند غيره ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مشاحا لا بماله ولا بعلمه ولا بنصحه ، بل كان سخيا كريما منفقا جوادا .
- قوله : " يتغافل عما لا يشتهي " ، أي أنه فطن للأمور ؛ يعرف ما يدور حوله ، لكنه يتغافل مراعاة للمصلحة ، قال الإمام الشافعي رحمه الله : " اللبيب العاقل هو الفطي المتغافل " .
- " ولا يؤيس منه راجية ، ولا يخيب فيه " إذا جاء إنسان يطلب منه صلى الله عليه وسلم عطاء لا يقابله بكلام يجعله ييأس ؛ فإن كان عنده ما يريد أعطاه إياه ، وإن لم يكن عنده قال له قولا ميسورا ، عملا بقوله تعالى : " وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) " سورة الإسراء .
- قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وما لا يعنيه " أي : منع نفسه من ثلاث خصال : وهي الجدال والخصومات ، والإكثار من المال والدنيا ، والخوض فيما لا يعنيه في دينه ودنياه .
- قوله : " وترك الناس من ثلاث " أي : من ثلاث خصال ، " كان لا يذم أحدا ولا يعيبه " أي : لا يعير أحدا من الناس ، بل ينهى عن ذلك ، " ولا يطلب عورته" لا يطلب عورته بالبحث والسؤال ، " ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه " أي : لا يتكلم بشئ إلا وهو يرجو ثوابا فيه عند الله تعالى . ص 385
قوله :" وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير " ، إذا تكلم معلما مفقها واعظا أطرق أصحابه رضي الله عنهم رؤوسهم كأنما عليها الطير ، ومعلوم أن الطير لا تقف إلا على شئ ساكن ، وهذا فيه التنبيه على تمام سكون هؤلاء وأدبهم وهدوئهم وإنصاتهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- قوله : " فإذا سكت تكلموا " ، فإذا سكت عن البيان ، والتعليم تكلموا ، " لا يتنازعون عنده الحديث " يعني : لا يحصل عنده خصومة ، بل يتكلمون ويراعون الأولوية فيمن يتكلم ، وقد رباهم رضي الله عنه على أن الأكبر يبدأ بالكلام .
- قوله : " ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ " ، إذا بدأ أحدهم بالكلام لا يقاطعونه ، بل ينصتون له حتى يفرغ من كلامه وذكر حاجته ، " حديثهم عنده حديث أولهم " الشئ الذي يتحدثون به عنده هو حديث من بدأ بالكلام ، أو أن أحقهم بالكلام من سبق به .
- قوله : " يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه " هذا من لطفه صلى الله عليه وسلم في حسن معاشرته لأصحابه ، ومؤانسته لجلسائه .
- قوله : " ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته " ، يصبر على الرجل الغريب ، أما جلساؤه فقد تربوا في مجلسه على الأخلاق الفاضلة والآداب الرفيعة ، لكن إذا جاء الرجل الغريب الذي قد يكون فظا غليظا صبر عليه صلى الله عليه وسلم في كلامه وفي سؤاله ، " حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون على مجئ الغريب إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويستجلبونه ؛ لأن الغريب يجرؤ على طرح الأسئلة فيستزيد الصحابة رضي الله عنهم وينتفعون . ص 386
- ويقول : إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه " ، أي فأعينوه على قضائها ، " ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ " ، من صنع إليه صلى الله عليه وسلم معروفا كافأه بأحسن منه أو بمثله .
- قوله : " ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام " أي : لا يقطع على أحد حديثه إذا تحدث عنده ، إلا إذا جاوز الحد في حديثه فيقطعه عندئذ بنهي عنه ، أو بقيام من عنده .
352- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ : لا . " أخرجه البخاري 6034 ، ومسلم 2311 "
- قوله : " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال : لا " أي : ما قال : " لا " منعا للعطاء ، لكن قد يقول " لا " إخبارا عن عدم وجود ما سأله السائل ، كما في قوله تعالى : " وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ .... (92) سورة التوبة .
353- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرَشِيُّ الْمَكِّيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. " أخرجه البخاري 1902 ، ومسلم 2308 " . ص 387
- فيه بيان خلق النبي صلى الله عليه وسلم من جهة سخائه وكرمه وبذله وإنفاقه ، فقوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير " أي : أعظمهم كرما وسخاء ، وبذلا وإنفاقا ، كان صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء الملوك ؛ فكل ما جاءه أنفقه ، وكان صلى الله عليه وسلم يبيت ليالي طاويا ، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع ، فإذا جاءه السائل أنفق ما عنده ، وكان صلى الله عليه وسلم يأتيه المال الكثير فلا يبيت ليلة إلا وقد فرقه كله ، فهو صلى الله عليه وسلم أكمل الناس في كل خلق جميل ، وفي كل عبادة ، فكان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس لله ، وأحسنهم خلقا ، وأكملهم أدبا ، وأعظمهم خشية وتقوى لله ـ تبارك وتعالى ـ
- قوله : " وكان أجود ما يكون في شهر رمضان " ، وفي هذا دليل أن لرمضان خصوصية في البذل والعطاء والإنفاق ، كما قال بعض السلف : " إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن ، وإطعام الطعام " .
- قوله : " فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن " ، كان جبريل عليه السلام يأتي في رمضان فيعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، والعرض هو القراءة من الحفظ ، وهذا يتكرر في كل رمضان ، وهذا فيه أهمية عرض الحافظ حفظه على غيره لتثبيته ، ولا سيما في رمضان شهر القرآن .
- قوله : " فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " ، الريح تكون مرسلة بالخير ، وتكون مرسلة بالعذاب ، والمراد بالريح هنا ، أي : التي أرسلها الله تعالى بالخير وهو الغيث ، فإذا أرسلت به الريح عم الخير فسقيت الأرض ، ورويت الزروع والماشية ، وانتفع الناس .
354- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ ص 388
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ. " أخرجه المصنف في جامعه 2362 "
- أي ما كان صلى الله عليه وسلم يدخر شيئا لنفسه ، وذلك لسخاء نفسه وثقته بربه ، إلا أن يكون قوتا لأهله وولده فجاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه كان يدخره ؛ فعن عمر رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ، ويحبس لأهله قوت سنتهم " رواه البخاري 5357 .
355- حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ الْمَدِينِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ ، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ أَعْطَيْتُهُ فَمَّا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ عُمَرَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْفِقْ وَلاَ تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلاَلاً ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرَ لِقَوْلِ الأَنْصَارِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُ. " في إسناده موسى بن أبي علقمة المديني ـ والد هارون ـ مجهول . "
- ومعناه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن عنده شئ يعطيه ، ولكن قال له : خذ حاجتك من السوق دينا ، ويكوه قضاؤه علي ـ إذا يسر الله ـ لا عليك ، " فقال عمر : يا رسول الله ! قد أعطيته فما كلفك الله ما لا تقدر عليه " أي : قبل هذه المرة ، ومادام ليس عندك الآن ما تعطيه ولا تملكه فلم يكلفك الله ما لا تقدر عليه ، " فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول ص 389
عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ! أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا " أي : فقرا ، من قل بمعنى : افتقر ، وهو في الأصل بمعنى : صار ذا قلة ، فالله تعالى واسع العطاء ، جزيل المن ، بيده الفضل ، وخزائنه تعالى ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، وما أحسن قوله " من ذي العرش " في هذا المقام أي : لا تخف ؛ فإن العرش وما دونه طوع تسخيره ، وهو مدبر الأمر من السماء إلى الأرض لا شريك له .
- قوله : " فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاري " أي : تبسم وظهر على وجهه البشر ، وهوالفرح والأنس والسرور لقول هذا الصحابي ، " ثم قال : بهذا أمرت " أي أن أنفق ، ولا أخاف من ذي العرش إقلالا ، وهذا المعنى يدل عليه قول الله تعالى : " .. وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) سورة سبأ " وما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه 2588 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما نقصت صدقة من مال "
356- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ ، قَالَتْ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ وَأَجْرٍ زُغْبٍ فَأَعْطَانِي مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا وَذَهَبًا. " إسناده ضعيف ، وقد سبق ذكره برقم 203 "
357- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. " أخرجه البخاري 2585 من رواية عيسى بن يونس ، وأخرجه المصنف في جامعه 1953 " ص 390
- فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يردها ، وقبوله الهدية نوع من الكرم ، وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب .
- قوله : " ويثيب عليها " أي : يعطي الذي يهدي له بدلها ، والمراد بالثواب المجازاة ، وأقله ما يساوي قيمة الهدية . ص 391